أينما نظرنا نجد التحديات تحيط بنا! الحروب، الوباء، التضخم، زيادة معدل الفائدة المصرفية... وإن كانت هذه ليست أول مرة نجابه فيها مثل هذه التحديات، لكن من النادر أن نجدها مجتمعةً وبهذا الحجم. وكلها تؤثر سلباً وبشكلٍ مباشر على التجارة العالمية وبالتالي على النمو الاقتصادي.
فيما يلي ستة اقتراحات للحد من الأثر السلبي لهذه التحديات:
أولاً: رغم الواجهة الاقتصادية، هذه التحديات مناطة أولاً بالقرارات السياسية. هل نحد من التضخم عن طريق تقليص السيولة المالية عبر رفع معدل الفائدة، أم عن طريق تشجيع زيادة الإنتاج مما يولد فرص عمل إضافية ويزيد من العرض؟ هل تخفيض سعر عملة دولة ما مناط بضعف اقتصادها أم بسياستها تجاه تشجيع الصادرات والحد من المستوردات؟
ثانياً: التقدم التكنولوجي الهائل الذي شهدناه خلال الحجر الذي واكب الوباء، حيث تمكن أغلبنا من متابعة أعماله الكترونياً وعن بُعد بدون حضور شخصي، وحقق البحث العلمي تقدماً باهراً في مجال اللقاح ضد الوباء مما سينعكس إيجاباً على أمراض أخرى، وحققت أساليب النقل قفزة نوعية لنقل البضائع عبر الحدود المقفلة لعبور الأشخاص بسبب الوقاية من انتشار الوباء. كل هذه التطورات ستبقى بعد زوال الوباء وستغير تعاملنا مع الإجراءات التقليدية لإدارة المشاريع. ولكنها ستفتح هوة مع البلدان الأقل نمواً التي لم تستفد من هذا التقدم، وحتى في بلد واحد بين الشرائح الاجتماعية المختلفة حسب تقبلها وتبنيها لهذه الأساليب الجديدة. من شأن هذا الوضع خلق أخطار اجتماعية جديدة يجب أخذها بعين الاعتبار حين وضع خطط الاستثمار والتمويل للمشاريع الجديدة.
ثالثاً: ما هي التكتلات السياسية أو المناطق الجغرافية التي ستخرج بوضع إيجابي، أو على الأقل، بخسائر أقل من غيرها من التقلبات الحالية؟ ما زال الاتحاد الأوروبي بعيد عن الوحدة الفعلية التي لا يمكن أن تتحقق بدون فيدرالية، وهي غير واردة في الوضع الحالي للعلاقات بين 27 دولة. ما زالت الولايات المتحدة على عهدها بتقديم مصالحها الخاصة على مصالح حلفائها مما يولد انعدام ثقة ملحوظة.
بقيت منطقة جنوب شرق آسيا، على المدى الطويل، تبدو لنا الأكثر حظاً بالنمو، يجتمع فيها حوالي نصف سكان العالم (بينما البلدان النامية في القارات الأخرى لا تتعدى 16% من سكان العالم). رغم الحرب في أوكرانيا، يتوقع الاقتصاديون أن ينمو اقتصاد دول آسيا بمعدل 9% خاصة مع متابعة الصين نموها.
رابعاً: الصدمة الاقتصادية التي ولدتها الحرب في أوكرانيا ستستبعد احتمال نشوب حروب إقليمية أخرى، مثل في تايوان، لأن جميع الأطراف أصابتهم خسائر مالية، اقتصادية واجتماعية هائلة مهما كان الموقف الذي تبنوه في الحرب. الاحتمال الأكبر هو التوصل إلى تفاهم يستبعد المجابهة العسكرية ويبني جسوراً للتبادل التجاري، تُثبت صحة شعار غرفة التجارة الدولية الذي تبناه مؤسسوها في عام 1919 وهو "البلدان التي يعم بينها التبادل التجاري لا تتجابه عسكرياً!".
خامساً: سمعنا كثيراً عن انتهاء العولمة بعدما رأينا الدول تغلق حدودها خلال الوباء، وتحتكر اللقاح والغذاء لشعبها، هذا التنبؤ مبالغ فيه، التجارة ليست ترف أو بذخ، إنها ضرورة لا غنى عنها، بدونها سيتوقف النمو مهما كان النظام الاقتصادي للدولة وادعاؤها باكتفائها الذاتي اقتصادياً. هذا ما يبرر متابعة المبادلات التجارية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في أشد المجابهات التي شهدها العالم في الخمسينات، وما يبُرر أن الدول التي توقفت عن تسديد قروضها السيادية تستثني عادة دفع الديون التجارية. هذا ما يمكننا من توقع نمو المبادلات مع تغييرين هامين: عوضاً عن اتجاه المبادلات من الغرب الى الشرق وبالعكس، من المرجح أن يغلب اتجاه المبادلات من الجنوب إلى الجنوب بحيث لا يبقى الغرب المشتري أو البائع الرئيسي. بالإضافة لذلك، نتوقع أن ينمو تبادل الخدمات على المبادلات الصناعية، خاصة مع النمو الهائل للذكاء الصنعي والأفاق المثيرة التي نتنبأ بها في المستقبل القريب.
سادساً: التحدي الأكبر الذي نواجهه جميعاً هو حماية البيئة. بعد أن خف التلوث خلال فترة الحجر أيام الوباء، عادت الأمور لمجراها الأول الغير مبالي عند العودة إلى العمل، هذا الوضع لا يمكن القبول به، قرار الحد من التلوث ليس مناطاً بالمشروع أو الحكومة فقط وإنما بكلٍ منا، يجب أن تحد المصارف من تمويل المشاريع الملوثة، وأن تحد المصارف المركزية من خصم ديون المصارف التي تمول هذه المشاريع، وأن تحد شركات التأمين من تغطية الأخطار المتعلقة بهذه المشاريع، إلى آخر السلسلة الإنتاجية بحيث تنقرض المشاريع الملوثة في زهاء السنوات الخمسة المقبلة.
هذه المقترحات الستة تتطلب قرارات جريئة دون شك، قد ينجم عنها خسائر فورية، أو على الأقل ربح أقل، ولكن على المدى الطويل، لا شك لدينا أنها أساس القرار الإداري السليم لحماية مشاريعنا، مجتمعنا وعائلاتنا.